البداية مع المواصلات
المواصلات هي العصب الحساس في كيان الامم وهي همزة الوصل للعلاقات العامة بجميع انواعها وفروعها .. وبها يجري التفاهم بين الاخذ والعطاء وبين الرفض والقبول ، وهي الوسيلة التي تربط افراد المجتمع ببعضهم وتربطهم بالمجتمعات الاخرى . والمواصلات بمفهومها العام هي المواصلة والارتباط بين الاطراف ، فالكلام والاشارة باليد او بالراس او بالعين وكذلك الاشارة بالرايات والاعلام والدخان ، ماهي الا وسائل للتعبير عن حاجة معينة وما اكثر حاجاتنا الى الاتصال ، فكلما تطورت العلوم والتكنلوجيا ، كلما تطورت وسائل المواصلات تبعا لذلك .. وقد استخدم الانسان قديما وسائل بدائية كالدخان والصراخ والطبول وبعدها سعاة المشاة والراكبين والحمام الزاجل .. ومن ثم التلغراف والتلفون والجهاز اللاسلكي .. الذي نحن بصدد تامل بدايته معكم .. ايها الاحبة الكرام ..
الاشارة الاولى
بدأت الاذاعة اللاسلكية مع اول عاصفة كهربائية هبت في فجر تكوين العالم ، وكان وميض اول برق كهربائي ، مركزا لاذاعة لاسلكية سارت امواجها في الفضاء فوق الجبال والبحار مخترقة الغابات والفيافي في كل الارجاء ، ولم يعرف الانسان ذلك الامرالطبيعي الا من زمن قريب .. حيث جاهد في اكتشافه وبحثه ابطال عديدون ومن امم مختلفة وفي ازمنة متفاوتة .. تحاكي قصصهم اشيق القصص وتاخذ حوادثهم بالالباب وتمس المشاعر .. فتستفز الروح حماسة وتثير في النفس اعجابا وتاملا ..
لم يولد علم الطبيعة الذي منه تفرع اللاسلكي مرة واحدة ، بل تكون تكونا بطيئا متغذيا بما كان يضيفه اليه العلماء عاما بعد عام .. وكان الامر كذلك حتى جاء اكتشاف ميخائيل فرداي سنة 1831 في التاثير الكهربائي - المغناطيسي ، وكان فرداي قد عرف مما كتبه وليم جلبرت سنة 1600 ان الكهرباء والمغناطيس مختلفان وليسا شيء واحد ، ويعتبر مانشره وليم جلبرت من تجارب حول المغانيط الطبيعية بتقريره المنشور ( المغناطيس ) اول تقرير علمي عن المغناطيسية الارضية وعلى اكثر تقدير حيث ازدادت المعرفة بشان المجالات وتفسير نظرية الدايبولات وكذلك توضيح الاسس والعلاقات للطاقة الكهرومغناطيسية طيلة السنوات اللاحقة وكانت الكهرباء معروفة انذاك والبطارية التي اخترعها فولطا الايطالي سنة 1799 مستعملة وهي التي نتجت عن ابحاث كلفاني سنة 1790 ، وكان ارستد هانز كرستيان العالم الدنيماركي قد اجرى تجاربه الاولى سنة 1819 عن علاقة الكهرباء بالمغناطيس واعلن اكتشافه عن تاثير التيار الكهربائي في الابرة المغناطيسية عند وضعها في مجاله المغناطيسي فتنحرف عنه فكان هذا الدليل الاول على ( الريب ) الذي استمر لاامد طويل بشان علاقة الكهربائية بالمغناطيسية .. وفي السنة التالية بين ( امبير ) ان التيارات الكهربائية تؤثر بعضها في بعض اذا ماوضعت الاسلاك التي تحملها في اوضاع متوازيه . وقد اكتشف كذلك ( اراجو ) عن الفعل المغناطيسي للتيار الكهربائي في الابر المعدنية ‘ وكان (سترجن ) قد كشف المغناطيس الكهربائي سنة 1825 ، ثم اضاف جوزيف هنري الامريكي سنة 1831 الى هذا الاكتشاف بعض التحسين في تركيبه ادت لاحقا الى امكان استعماله في التلغراف بطريقة افضل من التي كانت معروفة في ذلك الوقت مما حسن الارسال والاستقبال التلغرافي ( السلكي) وعلى مسافات ابعد .
وقد كانت تجارب جوزف هنري المشار اليها انفا تشابه في كثير من الاحيان تجارب فرداي حتى ان بعضها كانت تمثل نموذجا لعمل التلغراف اللاسلكي عندما ظهر لاحقا ، فقد كان فرداي في تجاربه يفرغ شرر زجاجة ليدن ثم يلتقط امواجها باسلاك غير متصلة بها ، وتبعد بنحو 50 مترا عنها . ومن الجدير بالذكر اخواني الهواة ان دانيال صنع بطارية عام 1836 وكانت تفوق بطارية فولتا من حيث قوة التيار وانتظامه مما حسن التجارب التي اجريت لاحقا من قبل العلماء .
اما تجربة فرداي التي قام بها سنة 1831 وهي بيت القصيد كما يقولون ، فقد اخذ حلقة من الحديد ولف على نصف دائرتها سلكا متصلا ببطارية فولتا ، ثم لف على النصف الثاني من نفس الحلقة سلكا اخر متصلا بكلفانومتر وكلما وصل فرداي التيار الكهربائي او قطعه .. تاثر الكلفانومتر بما يدل على ان تيارا كهربائيا قد مر في الدائرة الثانية ( الكلفانومتر) . وكانت هذه التجربة ان صح القول مفتاح الكهرباء العملية وماتبعها من تقدم علمي في الكهرباء لاحقا .
والحقيقة ان الرجل قصد من وراء هذه التجربة ان يبرهن لجمهور العلماء امكانية الحصول على تيار كهربائي من القوة المغناطيسية ودعم وجهة نظره هذه حين احدث تيارا كهربائيا بامرار قضيب مغناطيسي في ملف سلكي يتصل بكلفانومتر وحصل على نفس النتيجة السابقة .
الاخوة الهواة الاعزاء .. اذا حتمت علينا هذه المقدمة ان نبدا كلامنا لتاريخ المواصلات اللاسلكية ، فاني ابدا واياكم من حيث ماقام به من تجارب ميخائيل فرداي وجوزيف هنري لان تلك التجارب كانت اول خطوة نحو المواصلات اللاسلكية ، وان كان صاحباها لايدريان ان تلك التجارب هي الاساس في تقدم هذا الفن لما وصل اليه حاليا . ناهيك عن تطبيقها في فروع اخرى للكهرباء مما احدث ثورة في هذا المجال وحقيقة ان فرداي لم يضع نظريات لتجاربه الكهرومغناطيسية او قوانين تضبطها.. حيث كان ذلك السبب مادفع دراسة هذا الموضوع والتصدي له بعمق وشمولية واسعة العالم الرائع كلارك ماكسويل Jame Clerk Maxweel من خلال دراسته في جامعة كمبرج .. ثم بعد تخرجه منها ، وعمله استاذا فيها اكمل كتابه المدهش عام 1864 والذي عالج فيه موضوع ( التوترات والضغوط ) الحاصلة في الفضاء والتي تعرف اليوم بموجات الراديو.. وكانت النتيجة ان نفح العالم بقوانين تحدد قوة المجال المغناطيسي واثره الكهربائي وتضبط تجارب فرداي التي لم تكن تشمل غير تاثير المغناطيس في الكهرباء وان كل تغير في المجال المغناطيسي له اثر في التيار الناشىء عنه .. غير ان ماكسويل أظهر بقوانينه على ان الحالة صحيحة وكذلك العكس ايضا ، أي ان كل تغير حاصل في التيار الكهربائي له اثر ايضا في المجال المغناطيسي .. مما لم يذكره فرداي في تجاربه سابقا . وقد بين الرجل كذلك ( ماكسويل ) ان كل تغير حاصل في المجال المغناطيسي او المجال الكهربائي ينتج امواجا وعند قياس سرعتها وجد انها مساوية لسرعة الضوء ولذا استنتج عام 1867 ان الضوء امواج كهرومغناطيسية وهو مانعبر عنه اليوم بالامواج المغناطيسية التي تنشأ عن فعل كهربائي ، وكذلك بين ان الضوء كموجات يمكن ان ينحرف ويمتص وينعكس ويتركز في بؤره واضا ف ان موجات الضوء تنير جسما ما عند السقوط عليه ، بينما موجات الراديولاتفعل ذلك ، بل تغير من طبيعة الشىء الذي تتركز عليه .. استقبل العلماءفي كل مكان تنبؤات ماكسويل ببرود وحتى اللورد كلفن لم يصدق ان ماكسويل كان على حق .. هذا وكانت نظريات ماكسويل ، هي اربعة نظريات في الرياضيات البحته تنبأ بها وكتبها قبل اثباتها عمليا .. وعندما اقول عمليا اخوتي الهواة ، اقصد بذلك انه لم يكن من السهل اثبات هذه النظرية من حيث سببين رئيسيين وهما .. وجوب احداث تلك الامواج على نحو مضبوط قابل للقياس بغية ( التاكد ) من انها حدثت فعلا .. ولو ان احداث تلك الامواج كان قائما بتفريغ شرر زجاجة ليدن كما ذكرت لكم وعلى اساس تجارب اللورد كلفن سنة 1853 وجورج فتزجرلد سنة 1883 في هذا الميدان ، والامر الثاني هو وجوب التقاط تلك الامواج بعد ذلك ، بيد ان الالتقاط لم يكن سهلا الى ان جاء هرتز Henri Rudolf Hertz سنة 1887 واجرى تجارب ناجحة .. وكان ذلك بعد وفاة ماكسويل بعشر سنين ، حيث قصد هرتز ان يحدث امواجا كهربائية ناتجة عن تفريغ شرري منتقلة بسرعة الضوء وذلك لاثبات نظرية ماكسويل السابقة وقد استطاع هرتز ان يحدث تلك الامواج الكهرومغناطيسية في الفضاء .. والاغرب من ذلك هو انه استطاع التقاطها حيث استخدم هرتز وعائي ليدن ، ووعاء ليدن هذا هو نوع من المكثف ( الذي يستطيع خزن الشحنة الكهربائية) و يصنع هذا المكثف بتغليف وعاء زجاجي من داخله ومن خارجه برقيقة معدنية وفيه مسماران واحد داخل الوعاء والاخر خارجه وكلاهما بين الرقيقة والزجاجة من الداخل والخارج ويلتقيان في اعلى الوعاء ويشكلان مسافة صغيرة بين راسيهما ( المفلطحين ) .. ووضع هرتز وعاء ليدن في غرفة والاخر من الناحية البعيدة ، وعندما ادار هرتز الة ومزهرست لتوليد الشحن الكهربائي وغذى اسلاكها الى الوعاء الاول وكل سلك الى مسمار ، حدثت شرارة كهربائية عبر فرجة الشرر وفي نفس الوقت تقريبا فرقعت شرارة في الزجاجة البعيدة ، وهنا حلت لحظة من اعظم لحظات تاريخ الراديو .. لقد انطلقت موجات راديو من وعاء ليدن الاول وقطعت الغرفة بسرعة (300,000) كم في الثانية وحرضت الوعاء الثاني على اصدار شحنته المجمعة من رقائقه المعدنية ، واصبحت هذه الموجات تسمى بعد ذلك ( الموجات الهرتزية ) ومن ثم طور الامر بحلقة معدنية فيها فتحة صغيرة فكان يرى الشرر في تلك الفتحة اذا احدث تفريغ شرري على مسافة من الحلقة نفسها ، وما كان يعلم ان تجاربه تلك كانت دعامة المواصلات اللاسلكية فيما بعد ..
ومن الجدير بالذكراخواني الهواة انه في عام 1879 جاء رجل يدعى أدوارد هيوز واستعمل جهاز استقبال صنعه بنفسه وكان عبارة عن حلقة معدنية ملفوف عليها سلك يتصل بسماعة راس واستمع به في قلب لندن الى طقطقة موجات الراديو التي كانت تنطلق من اعمدة شوارعها لحظة الاضاءة عند الغروب .. وكذلك جاء برانلي الفرنسي ودخل على هذه القضية وذلك عام 1892 عندما بين ان الامواج التي تحدث عن التفريغ الشرري لها تاثير غريب في برادة الحديد اذ انها تجعل هذه البرادة تتلاصق وتقلل من مقاومتها للكهرباء ، ولم يدرك برانلي ايضا سر عظمة اكتشافه الى ان جاء السر اولفر لودج عام 1894 وبث موجات راديو لمسافة 135 متر حيث بين ان موجات الراديو التي احدثتها الشرارة في وعاء ليدن الاول حرضت شرارة عبر فرجة الشرر في وعاء ليدن الثاني ، ولكن موجات الراديو الصادرة عن شرارة كهربائية يمكنها فقط ان تسمع كطقطقة في سماعة الراس او مكبر الصوت (بوق الصوت) وبين كذلك انه اذا ما اريد اتخاذ خطوة للامام في ان يكون لموجات الراديو ان تحدث رسالة مقروءه .. لابد من اتخاذ خطوة اخرى .. وهنا نبه الى خطر هذه القضية !! وذلك عند استعمال امواج هرتز ورابط برانلي ( coherer) للتخاطب عن بعد بواسطة ابجدية مورس التي وضعت سابقا عام 1831 من قبل العالم صاموئيل مورس S.F.B.Mors .
ولم تبين الطريقة بعد ، بحسب ماجاء به السر اولفر لودج
في مجال الامواج
كانت اواخر سنوات القرن التاسع عشر مثيرة مميزة رائعة لكثرة اخبار التجارب التي كان يتناقلها العلماء حول ( الاكتشافات ) المتوالية في مجال الامواج والتي ساهم كتاب ماكسويل على تحديد مسار تلك التجارب والاكتشافات مما ركز الجهود جميعا حول المجالات الكهروطيسية الجديدة .. ولايخفى عليكم ايها الاحبة ان جرائد ذلك الزمان ونشرياته الدورية كان شغلها الشاغل هو متابعة تلك الانجازات وكذلك العلماء واخبارهم المتوالية لقرن تميز بنفسه وتسمى بقرن الاكتشافات ولكل فروع العلم والمعرفة ، ولم تكن تلك الاخبار لتخفى عن احد فثورة الطباعة هي الاخرى عالم كامل كان قد بدأ سابقا .. حيث كان الشباب هم الشريحة الواسعة التي يوجه اليها الخطاب وعلى اعتاب الثورة الصناعية أنذاك.. وحقيقة ان الشباب الطموح هو الذي كان يعنيه مايوجه له ، لان الكلمات والمعلومات تتوقف عندهم اكثر من غيرهم .. ليشبعوها تاملا وبحثا وتمحيصا .. حيث تميز من بين اولئك الشبان شابا يبدو انه نال قسطا وافرا من التامل ومتابعة كل معلومة وورقة تطبع بخصوص القادم الجديد .. موجات الراديو .. ذلك الشاب هو الايطالي جوجيلمو مركوني .. موضوعنا للجزء الثاني من بحثنا هذا .. ولنلقي نظرة معكم عن قرب على حياة هذا الشاب ..
جوجيلمو مركوني Guglielmo Marcon
ولد جوجيلمو مركوني في بلدة بولونا من شمال ايطاليا في اليوم الخامس والعشرين من شهر نيسان عام 1874 ، ولم ينجب أبوه الايطالي وامه الايرلندية اولادا من بعده فكان هو اصغر أبناء عائلة مركوني .. مال هذا الشاب الى العلوم الطبيعية والكهربائية منذ صغره ودأب على الاشتغال فيها ومتابعتها ، فكان يمضي اغلب اوقاته في اجراء التجارب ومتابعة اعمال هرتز وبرانلي ولودج وريجي وغيرهم من العلماء الطبيعيين .. ولم تات سنة 1895 وكان عمر مركوني لايزيد عن احدى وعشرين ربيعا لما كانت فكرة استعمال امواج هرتز الكهرومغناطيسية في نظام تلغرافي لاسلكي قد اكتملت في ذهنه .. فصنع جهازه الاول .. وما كان ابواه واخوته ليعيروه اهتماما وكذلك فلاحوا قريته .. بونتشيو القريبة من بولونا حيث كان مركوني يعمل تجاربه الاولى في بيت ابيه الريفي ، ليعيروه هم ايضا اهتمامهم او يصغوا لحديثه الغريب ظنا منهم ان به هوسا لايلبث ان يزول .. لكن مركوني كان يعلم ان تجاربه هذه ليست للهو او التسلية لتمضية الوقت ، ولكنه نظر اليها كواسطة لربط مكان باخر واداة مواصلات واعدة .. فلم يابه لهم واستمر في عمله منشغلا به مطالعا كل جديد فيه ، ولايخفى عليكم اخواني الهواة ، ان مركوني ليس اول من عمل التجارب في هذا المجال ، فقد سبقه في ذلك علماء اخرون نشروا ابحاثهم وبينوا استطاعة استعمال امواج هرتز لارسال الاشارات عن بعد كما مر بنا سابقا . غير ان مركوني كان اول من بين الطريقة العملية لاستعمال الامواج في المواصلات التلغرافية مما ادى الى قلب النظام التلغرافي القديم واحدث ثورة شاملة في طرق المخاطبات الكهربائية المعروفة وقتها .. واليكم ماجاء به هذا الشاب الطموح ..
الجهاز الاول
حضر مركوني جهازه الاول اللاسلكي في احدى غرف منزله النائية فركب جهازا مشابها لجهاز هرتز لاحداث الامواج المغناطيسية في الفضاء وحضر كل لوازمه التابعة له ووضع هذا الجهاز على طاولة في ركن من اركان الغرفة وفي الركن المقابل له وضع جهازا به رابطا ( رابط برانلي ) الذي استنبطه برانلي الفرنسي .. وكان يسمى الناقل الراديوي الترابطي ، وكان هذا الناقل انبوبا زجاجيا صغيرا ، وضعت فيه كمية صغيرة من برادة الحديد وهذه الكمية لم تكن تنقل بسهولة التيار القادم من بطارية متصلة بالانبوب . ومع ذلك . اذا ماوصل بالناقل هوائي تسري فيه تيارات ذات تردد راديوي فان برادة الحديد تتجمع او يلتصق بعضها ببعض وتسمح للتيار القادم من البطارية ان ينتقل بسهولة . ولذلك فكلما ارسل هوائي مرسل موجات في الاثير وحرض تيارات راديوية في هوائي مستقبل ، مر تيار مباشر من البطارية عن طريق الناقل وقرع جرسا او اضاء مصباحا مرتبط به . وعادة يصنع هذا الرابط الراديوي بان تؤخذ ابرتين من المعدن وتمغطسان ( تدلك بالمغناطيس ) ثم تثبتان بملقط من خشب او سدادة من فلين شجري ثم تدخل الابر في كل طرف من الانبوبة ويجب ان يكون القطبان المتقاربان مختلفي النوع أي يكون احدهما قطبا شماليا والاخر قطبا جنوبيا والمسافة الفاصلة بين راسي الابرتين بحدود 2 ملم ( داخل الانبوبة ) ويملاء التجويف بقليل من برادة الحديد . هذا هو الرابط الذي صنعه مركوني .. حيث كانت جميع قطع الاجهزة والادوات المستعملة في تجاربه بسيطة غير متقنة فما كان يستطيع الحصول على احسن منها وما كان يملك المال الكافي للانفاق على تجاربه .. غير ان ذلك لم يمنع تكليل تجاربه بالنجاح مما زاد ايمان مركوني وشدد من عزيمته ، وكانت الشرارات تظهر على الجهاز الاخر البعيد كلما ابعد هو في المسافة . ثم نقل بعد ذلك المخترع الشاب جهاز الالتقاط من ركن الغرفة ووضعه في ابعد غرفة عن جهاز الارسال واعاد التجربة فنجح في التقاط الاشارة مرة اخرى حيث كان له مساعد اول في هذا الموضوع وهي ابنة اخته الصغيرة فكانت تنقل له الملاحظات وهو يجري تجاربه .. حيث لاحظ اثنائها ان بعض القطع ليست متقنة تماما فحسنها وذلك مكنه من التقاط الاشارات المرسلة من جهاز الارسال في الغرفة الى جهاز الاستقبال الذي نقله الى حديقة المنزل خارجا بعد ان اضاف جرس كهربائي صغير الى دائرة الاستقبال مرتبطة على التوالي مع رابط برانلي من طرف والرابط مرتبط باحدى صفائح زجاجة ليدن المستقبلة وبطارية تكمل الدورة الى الجرس مرة اخرى . فكان كلما مر تيار راديوي برابط برانلي قلل مقاومة البرادة وجعلها تتلاصق في المسافة الصغيرة مما جعل تيار البطارية يكمل الدورة الى الجرس .. فيقرع الاخير .. كما مر بنا سابقا .. الى ان ينقر نقرا خفيفا على الرابط فيتوقف الجرس وذلك نتيجة تفكك جزيئات البرادة المتلاصقة فتتناثر حباتها وترجع سيرتها الاولى في عدم التوصيل .. وبعد ان نجح في تجاربه الاولى السالفة ثم بعد ان رأى قدرة الامواج على اختراق الجدران والحيطان ، احب ان يزيد المسافة بين الجهاز المرسل والمستقبل ، حيث لاحظ ان ابعاد الرقائق المعدنية في زجاجة ليدن عن بعضها وجعل المسافات بينهما متباعدة مرة بعد مرة ، تزداد المسافة التي يمكن ارسال الامواج اليها ، فعمد الى حيلة بسيطة للوصول الى غايته وهي انه اخذ احد لوحي المكثف وطمره في الارض ثم اخذ اللوح الاخر ورفعه على اعمدة عالية واجرى التجارب فافلح فيها ايضا ثم ابدل لوح المكثف المرفوع بسلك موصل بسيط فقام هذا السلك بعمله خير قيام واستغنى مركوني عن لوح الارضي لانه استعمل الارض نفسها لتقوم مقامه ، فكان اختراع هوائي مركوني ليضاف الى انجازه السابق ..وصار السلك المرفوع يسمى الهوائي ، وكذلك صار لدينا معلوما ماهو الهوائي ولماذا نصل الجهاز بالارض .. فما الهوائي والارضي سوى لوحي مكثف معزولين والهواء بينهما .
استمر مركوني باجراء تجاربه وتسجيل ملاحظاته مع مرور الايام ، ففي احد ايام ربيع عام 1895 وبعد ظهر ذلك اليوم نادى مركوني على فلاح من مستاجري اراضي ابيه وطلب منه ان يحضر بندقيته ويقف بالقرب من جهاز معين وان يبقى ملتفتا الى مطرقة من النوع المستعمل في الاجراس الكهربائية ثم رجاه ان يطلق عياره الناري اذا رأى المطرقة تهتز ثلاثة مرات ، حيث اضاف مركوني مطرقة اخرى مرتبطة بالاولى و التي تنقر على الرابط عند رجوعها من الجرس بعد زوال التيار اللاسلكي ، وتفكك البراده فيه ، فيكون الرابط مستعدا لاشارة جديدة اخرى . . وباستعمال مفتاح مورس عند الطرف المرسل ، امكن بث رسائل وجعلها تقرا عند الطرف المستقبل بواسطة الناقل .
اعطى مركوني التعليمات اللازمة للرجل واستحلفه ان يؤدي له هذه الخدمة وان لايترك مكانه حتى يعود اليه ، ثم حمل جهازه المرسل وجرى به الى خلف تل يبعد قليلا عن حقل القمح الذي وضع فيه الجهاز اللاقط .
جلس مركوني خلف التل على الارض ووضع المرسل بين رجليه ثم ضغط على مفتاح الارسال ثلاث مرات .. ولم تمض برهه قصيرة حتى سمع دوي السلاح وتاكد من نجاح تجربته مرة اخرى .
واصبح جهاز مركوني بعد اجراء الملاحظات والتحسينات عليه لايشبه جهاز تجاربه الاولى فبالنسبة لجهاز الارسال .. فيبدأ بمولد الشحنا ت الكهربائية ( الة ومزهرست ) ثم ملف التحويل الابتدائي ثم ملف التحويل الثانوي (الملفين عبارة عن محولة بسيطة) ثم مسافة تفريغ الشرر والهوائي ثم الارضي ، اما جهاز الالتقاط فيتكون من الهوائي ثم ملف التحويل ثم الارضي ومن بعد الهوائي رابط برانلي ثم الجرس وبعدها البطارية واخيرا تنتهي الدورة بالارضي حيث طرف ملف التحويل ، ولما علم مركوني مال تجاربه هذه بثاقب فكره وبعد نظره وان تجاربه مطابقة لافكاره ، فقد كانت الاشارات التي استعملها مضبوطة على نظام مورس التلغرافي وهو نظام التقاط النقط والشرط ، حيث بعد تاكده من نجاح تجاربه وتسلم الاشارات طبقا لما كان يرسله .. نفح العالم ببذرة المواصلات اللاسلكية وكان ذلك اواخر عام 1895 .
عند هذا الحد لم يستطع مركوني ان يبقي تجاربه في طي الكتمان بل اراد ان يشاركه العالم في نجاحه ورغب في استغلال اختراعه ايضا .. فسافر الى لندن حيث يعيش بعض اقارب امه الايرلنديه هناك ليتوسطوا له لدى رجال المواصلات ويمتحنون تجارب هذا الشاب علهم يجدون في جعبته شيئا مفيدا بشان نظريته اللاسلكية .. ماحدث بعد سفره الى بريطانيا و ماحدث في دائرة البريد البريطانية
قدم ماركوني الى بلاد الضباب لندن لايعرف احدا سوى اقارب امه الايرلنديه ، وكان يتردد ظهر كل يوم على فندق ليلعب البليارد مع احد موظفي الفندق تمضية للوقت .. ومنتظرا حصول الموافقات على مقابلة رجالات دائرة البريد البريطانية صاحبت الاختبار .. ومن اللطيف ان اذكر لكم موقف الناس من الراديو في تلك الايام وعلى لسان مركوني .. حيث قال ، اتفق يوما ان تغيب الموظف الذي يعمل في الفندق الذي اتردد عليه فدعى هذا الموظف زميلا له ليحل محله كي نلعب البليارد .. واوصاه بالشاب الايطالي الغريب ! ، وقال له .. ان هذا الشاب رقيق الطبع حلو الحديث ، ولكن ان حادثك في شان نقل اشارات ومخاطبات بغير اسلاك ونحو من ذلك من الاوهام .. فاصغ اليه ولا تجادله فيه ، فان به هوى من هذه الناحية .. تدل هذه النادرة على موقف الناس من اللاسلكي في ذلك العهد وهم في ذلك معذورون فما كانوا يدرون عن هذا الامر شيئا وهو لاشك حدث غريب لمن لم يعرفه ولم يالفه فكان على مركوني الشاب الغريب المجهول ان يواجه الصعاب ويزيل تلك العقبات ليشق لنفسه طريق النجاح .. غير ان العلم ا ثبت انه فوق جميع هذه الامور ..
من على سطح دائرة البريد
قدمت الدعوة لمركوني حالما وصلت اخبار تجاربه المرضية الى اصحاب الاختصاص علهم يكشفون صحة انباء هذا المنافس الجديد .. التلغراف اللاسلكي الذي ظهر على يدي هذا الشاب .. حيث طلب وليام بريس (من دائرة البريد ) من مركوني ان يقدم عرضا عمليا لاختبار جهازه اللاسلكي ، وقام مركوني بذلك من على سطح دائرة البريد البريطانية العامة في لندن ، حيث اجرى تلك التجارب امام مهندسي مصلحة البريد وموظفي الحكومة ورجال الاعمال الذين حظروا العرض الرائع الذي قدمه والذي استطاع ان يسترعي به الانظار الى اختراعه وجعل العلماء ورجال المواصلات المسؤولين يقفون امامه وقفة أكبار وتقدير .. ثم جعلهم يصفقون لنجاح تجاربه طويلا .. و قام مركوني بعد فترة بعرض اخر ومن فوق هضبة سالزبوري في منطقة بلين بعد ان اجرى عدة تحسينات على اجهزته من ناحية الهوائيات ، حيث استطاع ان يرسل اشاراته لمسافة 2.5 كيلو متر مما زاد حماس الجمهور الذي حضر العرض حيث حضره ضباط عسكريون من ذوي الرتب العالية واخرين غيرهم واعجبوا ايما اعجاب بما شاهدوا .. لقد قال بريس بعدها للشاب مركوني .. ان دائرة البريد البريطانية لن تألوا جهدا في دعم تجاربه هذه.. ماليا .. هذا ولم تنتهي سنة 1896 حتى نال مركوني أمتياز اختراعه الذي صار يلتقط اشارات مرسلة عن بعد بنحو ثلاث كيلومترات ، حيث في اولائل سنة 1897 تأسست شركة مواصلات لاسلكية صغيرة .. ولم تكن هذه الشركة في اول امرها غير شركة خاصة يراسها جوجيلمو مركوني ويساعده في تحضير الاجهزة ويقوم باعمال السكرتارية والحسابات وجميع متعلقاتها موظف واحد لاغير هو المستر هنري الن ، حيث استقال من مصلحة البريد وفضل الالتحاق بمركوني . الا ان الاعمال زادت وحتمت مضاعفة عدد الموظفين فصار اثنين قبل انقضاء شهرين من تاسيس الشركة وفي هذه السنة وصلت المسافة بين الجهازين 12 كيلو مترا .. ولم يجىء شهر ديسمبر من تلك السنة حتى كان لمركوني محطة تلغراف لاسلكية ..
وفي 17 أيار من عام 1897 نفسه اجرى مركوني تجارب ارسال ناجحة من نقطة لافرنوك من على ساحل غلامور غانشر الى جزيرة فلات هولم الغير ماهولة على بعد 12،5 كيلومتر من الساحل مستخدما مكثفات جيدة في جهاز ارساله مكنت له من ارسال الاشارات بمسافات ابعد ( لاحظ ان جهازه الاول بغير مكثفات قبل مسافة تفريغ الشرر ) وفي 18 أيار من العام ذاته قام بارسال اشارات راديوية ناجحة من نقطة لافرنوك مقر تجاربه الى برين داون في سومر مست .. واكتشف خلال هذه التجارب حقيقة ان الاتصال بالراديو يكون سهلا فوق الماء منه على اليابسه .. وكانت هذه اولى الحقائق التي تكشف في هذا المجال .. لقد بذل بريس بعد هذه التجارب كل ما في وسعه لاقناع الحكومة البريطانية بدعم ماركوني ماليا .. لكن الاضطرابات في جنوب افريقيا وفي انكلترا بالذات جعلت الحكومة ترفض رصد المال اللازم .. عاد مركوني بعدها الى ايطاليا وكان ذلك صدمة عنيفة لويليام بريس الذي كان يامل ان يبقى مركوني في انكلترا للعمل مع فريق الباحثين في دائرة البريد البريطانية ..
اما بالنسبة لمركوني فقد كانت تجاربه مثار اهتمام جهة اخرى هي شركة التامين ( لويدز اوف لندن ) المشهورة وكان ذلك عام 1898 ، وطلبت تلك الشركة صاحبة الشهرة العالمية في مجال التامين البحري من مركوني ان يعرض اختبارات عملية لجهازه اللاسلكي .. حيث لبى مركوني تلك الدعوة واختار موقع باليكاسل في الشمال الشرقي من ايرلندا ونقطة جزيرة راثلين قرب ذلك الشاطيء ليقوم باختباراته .. ونجحت هذه الاختبارات ايضا .. صحيح ان المسافة لم تكن اكثر من 12،5 كم ، الا ان طبيعة المنطقة لم تكن مناسبة لارسال موجات الراديو واستقبالها ، لان معظم المسافة كانت فوق اليابسة ولوجود صخرة عالية وجزء صغير من البحر بين محطة الارسال ومحطة الاستقبال ..
وفي العام نفسه الذي اجريت فيه اختبارات باليكاسل ، ركب مركوني جهازه على الباخرة المسماة فلايينغ هنترس ، واقام محطة الاستقبال في بيت رئيس المرفأ في كينغستون في ايرلندا ، وكان سباق القوارب في كينغستون قائما ذلك الوقت ، فارسلت نتائج المباريات المختلفة بالراديو ..و كان الارسال من الباخرة الى بيت رئيس المرفأ مباشرة حيث كانت وقائع هذه التجربة رائعة لجميع من حضرها، وما ان جاء كانون الاول من عام 1898 حتى ارسل مركوني اشارات ناجحة من منارة ساوث فورلند البحرية الى المنارة العائمة المسماة أيست غوردين ( زورق عائم ) وكانت المسافة 19 كيلو مترا تقريبا . وبقي هذا الاتصال قائما مستمرا بين هذه المنارة والمنارة العائمة لمدة سنتين بعد ذلك ، وامكن به تفادي غرق العديد من السفن وانقاذ العديد من الارواح لحالات اخرى .. لقد بدأ الراديو بالانقاذ منذ ذلك الحين .. حيث زادت المسافة بعدها ووصلت الى 50 كيلومترا وصارت تقفز بعد ذلك من رقم الى اخرواخر.. مما استرعى انظار رجال الاعمال ونبههم الى هذه الطريقة الجديدة في المواصلات التلغرافية .. حتى ان بعضهم قال انها تفوق التليفون ، لان هذا مع نقله للصوت يستلزم اسلاك ومعدات مركز الهاتف ، وحالة جهاز مركوني انه ينقل الاشارات لاسلكيا .. هذا ولم يكن العلماء ببعيدين عن هذا الاختراع الكبير فقد دخلوا هم أيضا عليه واجروا تحسينات كل من جهته فقد جاء السر اولفر لودج العالم الانجليزي الطبيعي صاحب الفكرة الرائدة في امكانية الاتصال بامواج هرتز وعمل على تحسين اختراع مركوني ، عندما لاحظ ان جهاز مركوني الاول الذي صنعه غير واف بالمرام لان مجال اذاعته ضيق وذلك منسوب الى قوة المقاومة الشديدة التي في مسافة تفريغ الشرر بين الهوائي والارضي ، لذلك عمد لودج الى تحسين الجهاز فادخل عليه تعديلات أفضت الى نتائج لاباس بها .. فقد استغنى عن مسافة تفريغ الشرر التي بين الهوائي والارضي ووضع بدلا منها مسافتي تفريغ شرر واحدة قبل الهوائي وواحدة قبل الارضي كما أضاف ملفي تأثير ذاتي متغيرين يمكن السيطرة بهما على الامواج المذاعة وتعديل اطوالها وفق الارادة أي ضبطها ( ملف قبل الهوائي وملف قبل الارضي وكلاهما بعد مسافتي تفريغ الشرر ) وكذلك أضاف سلك حلزوني بعد المكثف يؤدي الى شحن وتفريغ منتظم للمكثف .. وكان ملفي الضبط الخاصين بضبط الأمواج من افضل الاعمال التي قدمها لودج الى اللاسلكي فبهما صار يمكن ضبط الامواج واصلاحها فيكون لكل محطة ارسال موجة خاصة بها لاتنازعها محطة اخرى وكذلك صار يمكن ضبط كل جهاز مستقبل لالتقاط طول موجة معينة . ثم جاء آخرون وأضافوا تحسينات أخرى فقد عمل مهندسين المانيين على اكتشاف مسافة الشرر المطفأة وهي عبارة عن أنبوبة بها غازات ومواد لاتحدث شرارة منظورة عند عملها أدت الى تحسين الارسال ايضا .. عندما قدما جهازهما المسمى التليفونكن لاحقا ..
وما ان حلت سنة 1899 حتى وصلت المسافة مايقرب من 300 كيلو متر ، ومع أن الناس تفاءلوا بهذا الامر خيرا وبنوا عليه آمالهم على أنهم سوف يستعيضون بالتلغراف اللاسلكي عن المواصلات السلكية .. غير ان العلماء أفتوا بان انحناء الارض يمنع زيادة المسافة عن حد معين ، لان الانحناء يصد الأمواج فيحجبها عن الجهاز المستقبل .. مما دعا عالم كبير مثل اللورد كلفن أن يصرح إن أمرا مثل هذا هو ليس صعب المنال بل مستحيل أصلا .. وهكذا قضوا على أية فكرة تقول بامكان التخاطب لاسلكيا عن بعد يستحق الذكر .. بعد كل ماوصل اليه اللاسلكي من اعاجيب .. !! ، قابل مركوني هذه الصدمة بصدر رحب ورباطة جأش ، حين قال إن هذا الامر لايمنع عمل التجارب لإثبات هذه النظرية أو نفيها
المواصلات هي العصب الحساس في كيان الامم وهي همزة الوصل للعلاقات العامة بجميع انواعها وفروعها .. وبها يجري التفاهم بين الاخذ والعطاء وبين الرفض والقبول ، وهي الوسيلة التي تربط افراد المجتمع ببعضهم وتربطهم بالمجتمعات الاخرى . والمواصلات بمفهومها العام هي المواصلة والارتباط بين الاطراف ، فالكلام والاشارة باليد او بالراس او بالعين وكذلك الاشارة بالرايات والاعلام والدخان ، ماهي الا وسائل للتعبير عن حاجة معينة وما اكثر حاجاتنا الى الاتصال ، فكلما تطورت العلوم والتكنلوجيا ، كلما تطورت وسائل المواصلات تبعا لذلك .. وقد استخدم الانسان قديما وسائل بدائية كالدخان والصراخ والطبول وبعدها سعاة المشاة والراكبين والحمام الزاجل .. ومن ثم التلغراف والتلفون والجهاز اللاسلكي .. الذي نحن بصدد تامل بدايته معكم .. ايها الاحبة الكرام ..
الاشارة الاولى
بدأت الاذاعة اللاسلكية مع اول عاصفة كهربائية هبت في فجر تكوين العالم ، وكان وميض اول برق كهربائي ، مركزا لاذاعة لاسلكية سارت امواجها في الفضاء فوق الجبال والبحار مخترقة الغابات والفيافي في كل الارجاء ، ولم يعرف الانسان ذلك الامرالطبيعي الا من زمن قريب .. حيث جاهد في اكتشافه وبحثه ابطال عديدون ومن امم مختلفة وفي ازمنة متفاوتة .. تحاكي قصصهم اشيق القصص وتاخذ حوادثهم بالالباب وتمس المشاعر .. فتستفز الروح حماسة وتثير في النفس اعجابا وتاملا ..
لم يولد علم الطبيعة الذي منه تفرع اللاسلكي مرة واحدة ، بل تكون تكونا بطيئا متغذيا بما كان يضيفه اليه العلماء عاما بعد عام .. وكان الامر كذلك حتى جاء اكتشاف ميخائيل فرداي سنة 1831 في التاثير الكهربائي - المغناطيسي ، وكان فرداي قد عرف مما كتبه وليم جلبرت سنة 1600 ان الكهرباء والمغناطيس مختلفان وليسا شيء واحد ، ويعتبر مانشره وليم جلبرت من تجارب حول المغانيط الطبيعية بتقريره المنشور ( المغناطيس ) اول تقرير علمي عن المغناطيسية الارضية وعلى اكثر تقدير حيث ازدادت المعرفة بشان المجالات وتفسير نظرية الدايبولات وكذلك توضيح الاسس والعلاقات للطاقة الكهرومغناطيسية طيلة السنوات اللاحقة وكانت الكهرباء معروفة انذاك والبطارية التي اخترعها فولطا الايطالي سنة 1799 مستعملة وهي التي نتجت عن ابحاث كلفاني سنة 1790 ، وكان ارستد هانز كرستيان العالم الدنيماركي قد اجرى تجاربه الاولى سنة 1819 عن علاقة الكهرباء بالمغناطيس واعلن اكتشافه عن تاثير التيار الكهربائي في الابرة المغناطيسية عند وضعها في مجاله المغناطيسي فتنحرف عنه فكان هذا الدليل الاول على ( الريب ) الذي استمر لاامد طويل بشان علاقة الكهربائية بالمغناطيسية .. وفي السنة التالية بين ( امبير ) ان التيارات الكهربائية تؤثر بعضها في بعض اذا ماوضعت الاسلاك التي تحملها في اوضاع متوازيه . وقد اكتشف كذلك ( اراجو ) عن الفعل المغناطيسي للتيار الكهربائي في الابر المعدنية ‘ وكان (سترجن ) قد كشف المغناطيس الكهربائي سنة 1825 ، ثم اضاف جوزيف هنري الامريكي سنة 1831 الى هذا الاكتشاف بعض التحسين في تركيبه ادت لاحقا الى امكان استعماله في التلغراف بطريقة افضل من التي كانت معروفة في ذلك الوقت مما حسن الارسال والاستقبال التلغرافي ( السلكي) وعلى مسافات ابعد .
وقد كانت تجارب جوزف هنري المشار اليها انفا تشابه في كثير من الاحيان تجارب فرداي حتى ان بعضها كانت تمثل نموذجا لعمل التلغراف اللاسلكي عندما ظهر لاحقا ، فقد كان فرداي في تجاربه يفرغ شرر زجاجة ليدن ثم يلتقط امواجها باسلاك غير متصلة بها ، وتبعد بنحو 50 مترا عنها . ومن الجدير بالذكر اخواني الهواة ان دانيال صنع بطارية عام 1836 وكانت تفوق بطارية فولتا من حيث قوة التيار وانتظامه مما حسن التجارب التي اجريت لاحقا من قبل العلماء .
اما تجربة فرداي التي قام بها سنة 1831 وهي بيت القصيد كما يقولون ، فقد اخذ حلقة من الحديد ولف على نصف دائرتها سلكا متصلا ببطارية فولتا ، ثم لف على النصف الثاني من نفس الحلقة سلكا اخر متصلا بكلفانومتر وكلما وصل فرداي التيار الكهربائي او قطعه .. تاثر الكلفانومتر بما يدل على ان تيارا كهربائيا قد مر في الدائرة الثانية ( الكلفانومتر) . وكانت هذه التجربة ان صح القول مفتاح الكهرباء العملية وماتبعها من تقدم علمي في الكهرباء لاحقا .
والحقيقة ان الرجل قصد من وراء هذه التجربة ان يبرهن لجمهور العلماء امكانية الحصول على تيار كهربائي من القوة المغناطيسية ودعم وجهة نظره هذه حين احدث تيارا كهربائيا بامرار قضيب مغناطيسي في ملف سلكي يتصل بكلفانومتر وحصل على نفس النتيجة السابقة .
الاخوة الهواة الاعزاء .. اذا حتمت علينا هذه المقدمة ان نبدا كلامنا لتاريخ المواصلات اللاسلكية ، فاني ابدا واياكم من حيث ماقام به من تجارب ميخائيل فرداي وجوزيف هنري لان تلك التجارب كانت اول خطوة نحو المواصلات اللاسلكية ، وان كان صاحباها لايدريان ان تلك التجارب هي الاساس في تقدم هذا الفن لما وصل اليه حاليا . ناهيك عن تطبيقها في فروع اخرى للكهرباء مما احدث ثورة في هذا المجال وحقيقة ان فرداي لم يضع نظريات لتجاربه الكهرومغناطيسية او قوانين تضبطها.. حيث كان ذلك السبب مادفع دراسة هذا الموضوع والتصدي له بعمق وشمولية واسعة العالم الرائع كلارك ماكسويل Jame Clerk Maxweel من خلال دراسته في جامعة كمبرج .. ثم بعد تخرجه منها ، وعمله استاذا فيها اكمل كتابه المدهش عام 1864 والذي عالج فيه موضوع ( التوترات والضغوط ) الحاصلة في الفضاء والتي تعرف اليوم بموجات الراديو.. وكانت النتيجة ان نفح العالم بقوانين تحدد قوة المجال المغناطيسي واثره الكهربائي وتضبط تجارب فرداي التي لم تكن تشمل غير تاثير المغناطيس في الكهرباء وان كل تغير في المجال المغناطيسي له اثر في التيار الناشىء عنه .. غير ان ماكسويل أظهر بقوانينه على ان الحالة صحيحة وكذلك العكس ايضا ، أي ان كل تغير حاصل في التيار الكهربائي له اثر ايضا في المجال المغناطيسي .. مما لم يذكره فرداي في تجاربه سابقا . وقد بين الرجل كذلك ( ماكسويل ) ان كل تغير حاصل في المجال المغناطيسي او المجال الكهربائي ينتج امواجا وعند قياس سرعتها وجد انها مساوية لسرعة الضوء ولذا استنتج عام 1867 ان الضوء امواج كهرومغناطيسية وهو مانعبر عنه اليوم بالامواج المغناطيسية التي تنشأ عن فعل كهربائي ، وكذلك بين ان الضوء كموجات يمكن ان ينحرف ويمتص وينعكس ويتركز في بؤره واضا ف ان موجات الضوء تنير جسما ما عند السقوط عليه ، بينما موجات الراديولاتفعل ذلك ، بل تغير من طبيعة الشىء الذي تتركز عليه .. استقبل العلماءفي كل مكان تنبؤات ماكسويل ببرود وحتى اللورد كلفن لم يصدق ان ماكسويل كان على حق .. هذا وكانت نظريات ماكسويل ، هي اربعة نظريات في الرياضيات البحته تنبأ بها وكتبها قبل اثباتها عمليا .. وعندما اقول عمليا اخوتي الهواة ، اقصد بذلك انه لم يكن من السهل اثبات هذه النظرية من حيث سببين رئيسيين وهما .. وجوب احداث تلك الامواج على نحو مضبوط قابل للقياس بغية ( التاكد ) من انها حدثت فعلا .. ولو ان احداث تلك الامواج كان قائما بتفريغ شرر زجاجة ليدن كما ذكرت لكم وعلى اساس تجارب اللورد كلفن سنة 1853 وجورج فتزجرلد سنة 1883 في هذا الميدان ، والامر الثاني هو وجوب التقاط تلك الامواج بعد ذلك ، بيد ان الالتقاط لم يكن سهلا الى ان جاء هرتز Henri Rudolf Hertz سنة 1887 واجرى تجارب ناجحة .. وكان ذلك بعد وفاة ماكسويل بعشر سنين ، حيث قصد هرتز ان يحدث امواجا كهربائية ناتجة عن تفريغ شرري منتقلة بسرعة الضوء وذلك لاثبات نظرية ماكسويل السابقة وقد استطاع هرتز ان يحدث تلك الامواج الكهرومغناطيسية في الفضاء .. والاغرب من ذلك هو انه استطاع التقاطها حيث استخدم هرتز وعائي ليدن ، ووعاء ليدن هذا هو نوع من المكثف ( الذي يستطيع خزن الشحنة الكهربائية) و يصنع هذا المكثف بتغليف وعاء زجاجي من داخله ومن خارجه برقيقة معدنية وفيه مسماران واحد داخل الوعاء والاخر خارجه وكلاهما بين الرقيقة والزجاجة من الداخل والخارج ويلتقيان في اعلى الوعاء ويشكلان مسافة صغيرة بين راسيهما ( المفلطحين ) .. ووضع هرتز وعاء ليدن في غرفة والاخر من الناحية البعيدة ، وعندما ادار هرتز الة ومزهرست لتوليد الشحن الكهربائي وغذى اسلاكها الى الوعاء الاول وكل سلك الى مسمار ، حدثت شرارة كهربائية عبر فرجة الشرر وفي نفس الوقت تقريبا فرقعت شرارة في الزجاجة البعيدة ، وهنا حلت لحظة من اعظم لحظات تاريخ الراديو .. لقد انطلقت موجات راديو من وعاء ليدن الاول وقطعت الغرفة بسرعة (300,000) كم في الثانية وحرضت الوعاء الثاني على اصدار شحنته المجمعة من رقائقه المعدنية ، واصبحت هذه الموجات تسمى بعد ذلك ( الموجات الهرتزية ) ومن ثم طور الامر بحلقة معدنية فيها فتحة صغيرة فكان يرى الشرر في تلك الفتحة اذا احدث تفريغ شرري على مسافة من الحلقة نفسها ، وما كان يعلم ان تجاربه تلك كانت دعامة المواصلات اللاسلكية فيما بعد ..
ومن الجدير بالذكراخواني الهواة انه في عام 1879 جاء رجل يدعى أدوارد هيوز واستعمل جهاز استقبال صنعه بنفسه وكان عبارة عن حلقة معدنية ملفوف عليها سلك يتصل بسماعة راس واستمع به في قلب لندن الى طقطقة موجات الراديو التي كانت تنطلق من اعمدة شوارعها لحظة الاضاءة عند الغروب .. وكذلك جاء برانلي الفرنسي ودخل على هذه القضية وذلك عام 1892 عندما بين ان الامواج التي تحدث عن التفريغ الشرري لها تاثير غريب في برادة الحديد اذ انها تجعل هذه البرادة تتلاصق وتقلل من مقاومتها للكهرباء ، ولم يدرك برانلي ايضا سر عظمة اكتشافه الى ان جاء السر اولفر لودج عام 1894 وبث موجات راديو لمسافة 135 متر حيث بين ان موجات الراديو التي احدثتها الشرارة في وعاء ليدن الاول حرضت شرارة عبر فرجة الشرر في وعاء ليدن الثاني ، ولكن موجات الراديو الصادرة عن شرارة كهربائية يمكنها فقط ان تسمع كطقطقة في سماعة الراس او مكبر الصوت (بوق الصوت) وبين كذلك انه اذا ما اريد اتخاذ خطوة للامام في ان يكون لموجات الراديو ان تحدث رسالة مقروءه .. لابد من اتخاذ خطوة اخرى .. وهنا نبه الى خطر هذه القضية !! وذلك عند استعمال امواج هرتز ورابط برانلي ( coherer) للتخاطب عن بعد بواسطة ابجدية مورس التي وضعت سابقا عام 1831 من قبل العالم صاموئيل مورس S.F.B.Mors .
ولم تبين الطريقة بعد ، بحسب ماجاء به السر اولفر لودج
في مجال الامواج
كانت اواخر سنوات القرن التاسع عشر مثيرة مميزة رائعة لكثرة اخبار التجارب التي كان يتناقلها العلماء حول ( الاكتشافات ) المتوالية في مجال الامواج والتي ساهم كتاب ماكسويل على تحديد مسار تلك التجارب والاكتشافات مما ركز الجهود جميعا حول المجالات الكهروطيسية الجديدة .. ولايخفى عليكم ايها الاحبة ان جرائد ذلك الزمان ونشرياته الدورية كان شغلها الشاغل هو متابعة تلك الانجازات وكذلك العلماء واخبارهم المتوالية لقرن تميز بنفسه وتسمى بقرن الاكتشافات ولكل فروع العلم والمعرفة ، ولم تكن تلك الاخبار لتخفى عن احد فثورة الطباعة هي الاخرى عالم كامل كان قد بدأ سابقا .. حيث كان الشباب هم الشريحة الواسعة التي يوجه اليها الخطاب وعلى اعتاب الثورة الصناعية أنذاك.. وحقيقة ان الشباب الطموح هو الذي كان يعنيه مايوجه له ، لان الكلمات والمعلومات تتوقف عندهم اكثر من غيرهم .. ليشبعوها تاملا وبحثا وتمحيصا .. حيث تميز من بين اولئك الشبان شابا يبدو انه نال قسطا وافرا من التامل ومتابعة كل معلومة وورقة تطبع بخصوص القادم الجديد .. موجات الراديو .. ذلك الشاب هو الايطالي جوجيلمو مركوني .. موضوعنا للجزء الثاني من بحثنا هذا .. ولنلقي نظرة معكم عن قرب على حياة هذا الشاب ..
جوجيلمو مركوني Guglielmo Marcon
ولد جوجيلمو مركوني في بلدة بولونا من شمال ايطاليا في اليوم الخامس والعشرين من شهر نيسان عام 1874 ، ولم ينجب أبوه الايطالي وامه الايرلندية اولادا من بعده فكان هو اصغر أبناء عائلة مركوني .. مال هذا الشاب الى العلوم الطبيعية والكهربائية منذ صغره ودأب على الاشتغال فيها ومتابعتها ، فكان يمضي اغلب اوقاته في اجراء التجارب ومتابعة اعمال هرتز وبرانلي ولودج وريجي وغيرهم من العلماء الطبيعيين .. ولم تات سنة 1895 وكان عمر مركوني لايزيد عن احدى وعشرين ربيعا لما كانت فكرة استعمال امواج هرتز الكهرومغناطيسية في نظام تلغرافي لاسلكي قد اكتملت في ذهنه .. فصنع جهازه الاول .. وما كان ابواه واخوته ليعيروه اهتماما وكذلك فلاحوا قريته .. بونتشيو القريبة من بولونا حيث كان مركوني يعمل تجاربه الاولى في بيت ابيه الريفي ، ليعيروه هم ايضا اهتمامهم او يصغوا لحديثه الغريب ظنا منهم ان به هوسا لايلبث ان يزول .. لكن مركوني كان يعلم ان تجاربه هذه ليست للهو او التسلية لتمضية الوقت ، ولكنه نظر اليها كواسطة لربط مكان باخر واداة مواصلات واعدة .. فلم يابه لهم واستمر في عمله منشغلا به مطالعا كل جديد فيه ، ولايخفى عليكم اخواني الهواة ، ان مركوني ليس اول من عمل التجارب في هذا المجال ، فقد سبقه في ذلك علماء اخرون نشروا ابحاثهم وبينوا استطاعة استعمال امواج هرتز لارسال الاشارات عن بعد كما مر بنا سابقا . غير ان مركوني كان اول من بين الطريقة العملية لاستعمال الامواج في المواصلات التلغرافية مما ادى الى قلب النظام التلغرافي القديم واحدث ثورة شاملة في طرق المخاطبات الكهربائية المعروفة وقتها .. واليكم ماجاء به هذا الشاب الطموح ..
الجهاز الاول
حضر مركوني جهازه الاول اللاسلكي في احدى غرف منزله النائية فركب جهازا مشابها لجهاز هرتز لاحداث الامواج المغناطيسية في الفضاء وحضر كل لوازمه التابعة له ووضع هذا الجهاز على طاولة في ركن من اركان الغرفة وفي الركن المقابل له وضع جهازا به رابطا ( رابط برانلي ) الذي استنبطه برانلي الفرنسي .. وكان يسمى الناقل الراديوي الترابطي ، وكان هذا الناقل انبوبا زجاجيا صغيرا ، وضعت فيه كمية صغيرة من برادة الحديد وهذه الكمية لم تكن تنقل بسهولة التيار القادم من بطارية متصلة بالانبوب . ومع ذلك . اذا ماوصل بالناقل هوائي تسري فيه تيارات ذات تردد راديوي فان برادة الحديد تتجمع او يلتصق بعضها ببعض وتسمح للتيار القادم من البطارية ان ينتقل بسهولة . ولذلك فكلما ارسل هوائي مرسل موجات في الاثير وحرض تيارات راديوية في هوائي مستقبل ، مر تيار مباشر من البطارية عن طريق الناقل وقرع جرسا او اضاء مصباحا مرتبط به . وعادة يصنع هذا الرابط الراديوي بان تؤخذ ابرتين من المعدن وتمغطسان ( تدلك بالمغناطيس ) ثم تثبتان بملقط من خشب او سدادة من فلين شجري ثم تدخل الابر في كل طرف من الانبوبة ويجب ان يكون القطبان المتقاربان مختلفي النوع أي يكون احدهما قطبا شماليا والاخر قطبا جنوبيا والمسافة الفاصلة بين راسي الابرتين بحدود 2 ملم ( داخل الانبوبة ) ويملاء التجويف بقليل من برادة الحديد . هذا هو الرابط الذي صنعه مركوني .. حيث كانت جميع قطع الاجهزة والادوات المستعملة في تجاربه بسيطة غير متقنة فما كان يستطيع الحصول على احسن منها وما كان يملك المال الكافي للانفاق على تجاربه .. غير ان ذلك لم يمنع تكليل تجاربه بالنجاح مما زاد ايمان مركوني وشدد من عزيمته ، وكانت الشرارات تظهر على الجهاز الاخر البعيد كلما ابعد هو في المسافة . ثم نقل بعد ذلك المخترع الشاب جهاز الالتقاط من ركن الغرفة ووضعه في ابعد غرفة عن جهاز الارسال واعاد التجربة فنجح في التقاط الاشارة مرة اخرى حيث كان له مساعد اول في هذا الموضوع وهي ابنة اخته الصغيرة فكانت تنقل له الملاحظات وهو يجري تجاربه .. حيث لاحظ اثنائها ان بعض القطع ليست متقنة تماما فحسنها وذلك مكنه من التقاط الاشارات المرسلة من جهاز الارسال في الغرفة الى جهاز الاستقبال الذي نقله الى حديقة المنزل خارجا بعد ان اضاف جرس كهربائي صغير الى دائرة الاستقبال مرتبطة على التوالي مع رابط برانلي من طرف والرابط مرتبط باحدى صفائح زجاجة ليدن المستقبلة وبطارية تكمل الدورة الى الجرس مرة اخرى . فكان كلما مر تيار راديوي برابط برانلي قلل مقاومة البرادة وجعلها تتلاصق في المسافة الصغيرة مما جعل تيار البطارية يكمل الدورة الى الجرس .. فيقرع الاخير .. كما مر بنا سابقا .. الى ان ينقر نقرا خفيفا على الرابط فيتوقف الجرس وذلك نتيجة تفكك جزيئات البرادة المتلاصقة فتتناثر حباتها وترجع سيرتها الاولى في عدم التوصيل .. وبعد ان نجح في تجاربه الاولى السالفة ثم بعد ان رأى قدرة الامواج على اختراق الجدران والحيطان ، احب ان يزيد المسافة بين الجهاز المرسل والمستقبل ، حيث لاحظ ان ابعاد الرقائق المعدنية في زجاجة ليدن عن بعضها وجعل المسافات بينهما متباعدة مرة بعد مرة ، تزداد المسافة التي يمكن ارسال الامواج اليها ، فعمد الى حيلة بسيطة للوصول الى غايته وهي انه اخذ احد لوحي المكثف وطمره في الارض ثم اخذ اللوح الاخر ورفعه على اعمدة عالية واجرى التجارب فافلح فيها ايضا ثم ابدل لوح المكثف المرفوع بسلك موصل بسيط فقام هذا السلك بعمله خير قيام واستغنى مركوني عن لوح الارضي لانه استعمل الارض نفسها لتقوم مقامه ، فكان اختراع هوائي مركوني ليضاف الى انجازه السابق ..وصار السلك المرفوع يسمى الهوائي ، وكذلك صار لدينا معلوما ماهو الهوائي ولماذا نصل الجهاز بالارض .. فما الهوائي والارضي سوى لوحي مكثف معزولين والهواء بينهما .
استمر مركوني باجراء تجاربه وتسجيل ملاحظاته مع مرور الايام ، ففي احد ايام ربيع عام 1895 وبعد ظهر ذلك اليوم نادى مركوني على فلاح من مستاجري اراضي ابيه وطلب منه ان يحضر بندقيته ويقف بالقرب من جهاز معين وان يبقى ملتفتا الى مطرقة من النوع المستعمل في الاجراس الكهربائية ثم رجاه ان يطلق عياره الناري اذا رأى المطرقة تهتز ثلاثة مرات ، حيث اضاف مركوني مطرقة اخرى مرتبطة بالاولى و التي تنقر على الرابط عند رجوعها من الجرس بعد زوال التيار اللاسلكي ، وتفكك البراده فيه ، فيكون الرابط مستعدا لاشارة جديدة اخرى . . وباستعمال مفتاح مورس عند الطرف المرسل ، امكن بث رسائل وجعلها تقرا عند الطرف المستقبل بواسطة الناقل .
اعطى مركوني التعليمات اللازمة للرجل واستحلفه ان يؤدي له هذه الخدمة وان لايترك مكانه حتى يعود اليه ، ثم حمل جهازه المرسل وجرى به الى خلف تل يبعد قليلا عن حقل القمح الذي وضع فيه الجهاز اللاقط .
جلس مركوني خلف التل على الارض ووضع المرسل بين رجليه ثم ضغط على مفتاح الارسال ثلاث مرات .. ولم تمض برهه قصيرة حتى سمع دوي السلاح وتاكد من نجاح تجربته مرة اخرى .
واصبح جهاز مركوني بعد اجراء الملاحظات والتحسينات عليه لايشبه جهاز تجاربه الاولى فبالنسبة لجهاز الارسال .. فيبدأ بمولد الشحنا ت الكهربائية ( الة ومزهرست ) ثم ملف التحويل الابتدائي ثم ملف التحويل الثانوي (الملفين عبارة عن محولة بسيطة) ثم مسافة تفريغ الشرر والهوائي ثم الارضي ، اما جهاز الالتقاط فيتكون من الهوائي ثم ملف التحويل ثم الارضي ومن بعد الهوائي رابط برانلي ثم الجرس وبعدها البطارية واخيرا تنتهي الدورة بالارضي حيث طرف ملف التحويل ، ولما علم مركوني مال تجاربه هذه بثاقب فكره وبعد نظره وان تجاربه مطابقة لافكاره ، فقد كانت الاشارات التي استعملها مضبوطة على نظام مورس التلغرافي وهو نظام التقاط النقط والشرط ، حيث بعد تاكده من نجاح تجاربه وتسلم الاشارات طبقا لما كان يرسله .. نفح العالم ببذرة المواصلات اللاسلكية وكان ذلك اواخر عام 1895 .
عند هذا الحد لم يستطع مركوني ان يبقي تجاربه في طي الكتمان بل اراد ان يشاركه العالم في نجاحه ورغب في استغلال اختراعه ايضا .. فسافر الى لندن حيث يعيش بعض اقارب امه الايرلنديه هناك ليتوسطوا له لدى رجال المواصلات ويمتحنون تجارب هذا الشاب علهم يجدون في جعبته شيئا مفيدا بشان نظريته اللاسلكية .. ماحدث بعد سفره الى بريطانيا و ماحدث في دائرة البريد البريطانية
قدم ماركوني الى بلاد الضباب لندن لايعرف احدا سوى اقارب امه الايرلنديه ، وكان يتردد ظهر كل يوم على فندق ليلعب البليارد مع احد موظفي الفندق تمضية للوقت .. ومنتظرا حصول الموافقات على مقابلة رجالات دائرة البريد البريطانية صاحبت الاختبار .. ومن اللطيف ان اذكر لكم موقف الناس من الراديو في تلك الايام وعلى لسان مركوني .. حيث قال ، اتفق يوما ان تغيب الموظف الذي يعمل في الفندق الذي اتردد عليه فدعى هذا الموظف زميلا له ليحل محله كي نلعب البليارد .. واوصاه بالشاب الايطالي الغريب ! ، وقال له .. ان هذا الشاب رقيق الطبع حلو الحديث ، ولكن ان حادثك في شان نقل اشارات ومخاطبات بغير اسلاك ونحو من ذلك من الاوهام .. فاصغ اليه ولا تجادله فيه ، فان به هوى من هذه الناحية .. تدل هذه النادرة على موقف الناس من اللاسلكي في ذلك العهد وهم في ذلك معذورون فما كانوا يدرون عن هذا الامر شيئا وهو لاشك حدث غريب لمن لم يعرفه ولم يالفه فكان على مركوني الشاب الغريب المجهول ان يواجه الصعاب ويزيل تلك العقبات ليشق لنفسه طريق النجاح .. غير ان العلم ا ثبت انه فوق جميع هذه الامور ..
من على سطح دائرة البريد
قدمت الدعوة لمركوني حالما وصلت اخبار تجاربه المرضية الى اصحاب الاختصاص علهم يكشفون صحة انباء هذا المنافس الجديد .. التلغراف اللاسلكي الذي ظهر على يدي هذا الشاب .. حيث طلب وليام بريس (من دائرة البريد ) من مركوني ان يقدم عرضا عمليا لاختبار جهازه اللاسلكي ، وقام مركوني بذلك من على سطح دائرة البريد البريطانية العامة في لندن ، حيث اجرى تلك التجارب امام مهندسي مصلحة البريد وموظفي الحكومة ورجال الاعمال الذين حظروا العرض الرائع الذي قدمه والذي استطاع ان يسترعي به الانظار الى اختراعه وجعل العلماء ورجال المواصلات المسؤولين يقفون امامه وقفة أكبار وتقدير .. ثم جعلهم يصفقون لنجاح تجاربه طويلا .. و قام مركوني بعد فترة بعرض اخر ومن فوق هضبة سالزبوري في منطقة بلين بعد ان اجرى عدة تحسينات على اجهزته من ناحية الهوائيات ، حيث استطاع ان يرسل اشاراته لمسافة 2.5 كيلو متر مما زاد حماس الجمهور الذي حضر العرض حيث حضره ضباط عسكريون من ذوي الرتب العالية واخرين غيرهم واعجبوا ايما اعجاب بما شاهدوا .. لقد قال بريس بعدها للشاب مركوني .. ان دائرة البريد البريطانية لن تألوا جهدا في دعم تجاربه هذه.. ماليا .. هذا ولم تنتهي سنة 1896 حتى نال مركوني أمتياز اختراعه الذي صار يلتقط اشارات مرسلة عن بعد بنحو ثلاث كيلومترات ، حيث في اولائل سنة 1897 تأسست شركة مواصلات لاسلكية صغيرة .. ولم تكن هذه الشركة في اول امرها غير شركة خاصة يراسها جوجيلمو مركوني ويساعده في تحضير الاجهزة ويقوم باعمال السكرتارية والحسابات وجميع متعلقاتها موظف واحد لاغير هو المستر هنري الن ، حيث استقال من مصلحة البريد وفضل الالتحاق بمركوني . الا ان الاعمال زادت وحتمت مضاعفة عدد الموظفين فصار اثنين قبل انقضاء شهرين من تاسيس الشركة وفي هذه السنة وصلت المسافة بين الجهازين 12 كيلو مترا .. ولم يجىء شهر ديسمبر من تلك السنة حتى كان لمركوني محطة تلغراف لاسلكية ..
وفي 17 أيار من عام 1897 نفسه اجرى مركوني تجارب ارسال ناجحة من نقطة لافرنوك من على ساحل غلامور غانشر الى جزيرة فلات هولم الغير ماهولة على بعد 12،5 كيلومتر من الساحل مستخدما مكثفات جيدة في جهاز ارساله مكنت له من ارسال الاشارات بمسافات ابعد ( لاحظ ان جهازه الاول بغير مكثفات قبل مسافة تفريغ الشرر ) وفي 18 أيار من العام ذاته قام بارسال اشارات راديوية ناجحة من نقطة لافرنوك مقر تجاربه الى برين داون في سومر مست .. واكتشف خلال هذه التجارب حقيقة ان الاتصال بالراديو يكون سهلا فوق الماء منه على اليابسه .. وكانت هذه اولى الحقائق التي تكشف في هذا المجال .. لقد بذل بريس بعد هذه التجارب كل ما في وسعه لاقناع الحكومة البريطانية بدعم ماركوني ماليا .. لكن الاضطرابات في جنوب افريقيا وفي انكلترا بالذات جعلت الحكومة ترفض رصد المال اللازم .. عاد مركوني بعدها الى ايطاليا وكان ذلك صدمة عنيفة لويليام بريس الذي كان يامل ان يبقى مركوني في انكلترا للعمل مع فريق الباحثين في دائرة البريد البريطانية ..
اما بالنسبة لمركوني فقد كانت تجاربه مثار اهتمام جهة اخرى هي شركة التامين ( لويدز اوف لندن ) المشهورة وكان ذلك عام 1898 ، وطلبت تلك الشركة صاحبة الشهرة العالمية في مجال التامين البحري من مركوني ان يعرض اختبارات عملية لجهازه اللاسلكي .. حيث لبى مركوني تلك الدعوة واختار موقع باليكاسل في الشمال الشرقي من ايرلندا ونقطة جزيرة راثلين قرب ذلك الشاطيء ليقوم باختباراته .. ونجحت هذه الاختبارات ايضا .. صحيح ان المسافة لم تكن اكثر من 12،5 كم ، الا ان طبيعة المنطقة لم تكن مناسبة لارسال موجات الراديو واستقبالها ، لان معظم المسافة كانت فوق اليابسة ولوجود صخرة عالية وجزء صغير من البحر بين محطة الارسال ومحطة الاستقبال ..
وفي العام نفسه الذي اجريت فيه اختبارات باليكاسل ، ركب مركوني جهازه على الباخرة المسماة فلايينغ هنترس ، واقام محطة الاستقبال في بيت رئيس المرفأ في كينغستون في ايرلندا ، وكان سباق القوارب في كينغستون قائما ذلك الوقت ، فارسلت نتائج المباريات المختلفة بالراديو ..و كان الارسال من الباخرة الى بيت رئيس المرفأ مباشرة حيث كانت وقائع هذه التجربة رائعة لجميع من حضرها، وما ان جاء كانون الاول من عام 1898 حتى ارسل مركوني اشارات ناجحة من منارة ساوث فورلند البحرية الى المنارة العائمة المسماة أيست غوردين ( زورق عائم ) وكانت المسافة 19 كيلو مترا تقريبا . وبقي هذا الاتصال قائما مستمرا بين هذه المنارة والمنارة العائمة لمدة سنتين بعد ذلك ، وامكن به تفادي غرق العديد من السفن وانقاذ العديد من الارواح لحالات اخرى .. لقد بدأ الراديو بالانقاذ منذ ذلك الحين .. حيث زادت المسافة بعدها ووصلت الى 50 كيلومترا وصارت تقفز بعد ذلك من رقم الى اخرواخر.. مما استرعى انظار رجال الاعمال ونبههم الى هذه الطريقة الجديدة في المواصلات التلغرافية .. حتى ان بعضهم قال انها تفوق التليفون ، لان هذا مع نقله للصوت يستلزم اسلاك ومعدات مركز الهاتف ، وحالة جهاز مركوني انه ينقل الاشارات لاسلكيا .. هذا ولم يكن العلماء ببعيدين عن هذا الاختراع الكبير فقد دخلوا هم أيضا عليه واجروا تحسينات كل من جهته فقد جاء السر اولفر لودج العالم الانجليزي الطبيعي صاحب الفكرة الرائدة في امكانية الاتصال بامواج هرتز وعمل على تحسين اختراع مركوني ، عندما لاحظ ان جهاز مركوني الاول الذي صنعه غير واف بالمرام لان مجال اذاعته ضيق وذلك منسوب الى قوة المقاومة الشديدة التي في مسافة تفريغ الشرر بين الهوائي والارضي ، لذلك عمد لودج الى تحسين الجهاز فادخل عليه تعديلات أفضت الى نتائج لاباس بها .. فقد استغنى عن مسافة تفريغ الشرر التي بين الهوائي والارضي ووضع بدلا منها مسافتي تفريغ شرر واحدة قبل الهوائي وواحدة قبل الارضي كما أضاف ملفي تأثير ذاتي متغيرين يمكن السيطرة بهما على الامواج المذاعة وتعديل اطوالها وفق الارادة أي ضبطها ( ملف قبل الهوائي وملف قبل الارضي وكلاهما بعد مسافتي تفريغ الشرر ) وكذلك أضاف سلك حلزوني بعد المكثف يؤدي الى شحن وتفريغ منتظم للمكثف .. وكان ملفي الضبط الخاصين بضبط الأمواج من افضل الاعمال التي قدمها لودج الى اللاسلكي فبهما صار يمكن ضبط الامواج واصلاحها فيكون لكل محطة ارسال موجة خاصة بها لاتنازعها محطة اخرى وكذلك صار يمكن ضبط كل جهاز مستقبل لالتقاط طول موجة معينة . ثم جاء آخرون وأضافوا تحسينات أخرى فقد عمل مهندسين المانيين على اكتشاف مسافة الشرر المطفأة وهي عبارة عن أنبوبة بها غازات ومواد لاتحدث شرارة منظورة عند عملها أدت الى تحسين الارسال ايضا .. عندما قدما جهازهما المسمى التليفونكن لاحقا ..
وما ان حلت سنة 1899 حتى وصلت المسافة مايقرب من 300 كيلو متر ، ومع أن الناس تفاءلوا بهذا الامر خيرا وبنوا عليه آمالهم على أنهم سوف يستعيضون بالتلغراف اللاسلكي عن المواصلات السلكية .. غير ان العلماء أفتوا بان انحناء الارض يمنع زيادة المسافة عن حد معين ، لان الانحناء يصد الأمواج فيحجبها عن الجهاز المستقبل .. مما دعا عالم كبير مثل اللورد كلفن أن يصرح إن أمرا مثل هذا هو ليس صعب المنال بل مستحيل أصلا .. وهكذا قضوا على أية فكرة تقول بامكان التخاطب لاسلكيا عن بعد يستحق الذكر .. بعد كل ماوصل اليه اللاسلكي من اعاجيب .. !! ، قابل مركوني هذه الصدمة بصدر رحب ورباطة جأش ، حين قال إن هذا الامر لايمنع عمل التجارب لإثبات هذه النظرية أو نفيها
0 التعليقات:
إرسال تعليق